أزمة دبلوماسية- اقتحام الإكوادور للسفارة المكسيكية يثير غضبًا دوليًا

في تطورات دراماتيكية وسريعة خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، شهدت العلاقات الدبلوماسية بين المكسيك والإكوادور تصعيدًا حادًا بلغ ذروته بإعلان الرئيس المكسيكي، مانويل لوبيز أوبرادور، عن قطع العلاقات بشكل كامل مع الإكوادور، وإغلاق السفارة المكسيكية في العاصمة كيتو، مع الأمر بعودة جميع الدبلوماسيين المكسيكيين إلى وطنهم.
هذا القرار المكسيكي الحاسم جاء كرد فعل غاضب ومباشر على الاقتحام الصارخ الذي قامت به قوات الأمن الإكوادورية لمقر السفارة المكسيكية في كيتو، والاعتداء الجسدي العنيف على القائم بالأعمال المؤقت، الأمر الذي أثار موجة عارمة من الاستنكار والإدانة من مختلف حكومات دول الجوار، والإدارة الأميركية، ودول الاتحاد الأوروبي.
شخصية هادئة
لطالما ترسخت صورة الرئيس المكسيكي، مانويل لوبيز أوبرادور، في أذهان شعوب أمريكا اللاتينية، كشخصية بسيطة ومتواضعة، تتمتع بهدوء ملحوظ وعفوية في التعامل. إلا أن قراره المفاجئ بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الإكوادور يوم السبت الماضي، شكل صدمة للكثيرين، وحطم هذا التصور النمطي، مما دفع وسائل الإعلام العالمية إلى البحث والتنقيب عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا القرار الجريء، ومدى صواب اتخاذه في هذا التوقيت الحساس.
وبالعودة إلى تسلسل الأحداث التي أدت إلى هذا التدهور الخطير في العلاقات، نجد أن الشرارة الأولى للأزمة قد اندلعت عندما أعلنت حكومة الرئيس الإكوادوري، دانيال نوبوا، مساء الخميس الماضي، عن اعتبار سفيرة المكسيك لدى الإكوادور، راكيل سيرور، شخصية غير مرغوب فيها، وطالبتها بمغادرة البلاد فورًا. وجاء هذا القرار على خلفية تصريحات أدلى بها الرئيس المكسيكي، أوبرادور، في وقت سابق من اليوم نفسه، بشأن الدور الذي يلعبه توظيف الإعلام للعنف السياسي في تغيير نتائج الانتخابات، مستشهدًا بالانتخابات الرئاسية الإكوادورية الأخيرة كمثال حي على ذلك.
فقد أشار الرئيس المكسيكي ضمنيًا إلى أن الرئيس الإكوادوري الحالي، نوبوا، قد فاز بمنصب الرئاسة عن طريق ضربة حظ غير متوقعة، وذلك بفضل حادثة الاغتيال المروعة التي تعرض لها المرشح الرئاسي، فرناندو فيافيسينسيو، في شهر أغسطس الماضي، أي قبل تسعة أيام فقط من موعد الانتخابات الرئاسية المبكرة. هذا الاغتيال أدى إلى إرباك كبير في المشهد السياسي، وبعثرة حظوظ الفوز التي كانت تتوقعها استطلاعات الرأي المختلفة، بناءً على أداء المرشحين المتنافسين.
هذه التصريحات أثارت حفيظة الحكومة الإكوادورية، وعبرت وزارة الخارجية الإكوادورية في بيان رسمي صدر مساء اليوم نفسه، عن استيائها الشديد من تصريحات الرئيس المكسيكي، واعتبرتها إساءة بالغة وتدخلًا سافرًا في الشأن الداخلي الإكوادوري، وعليه، طالبت السفيرة المكسيكية بمغادرة البلاد في أقرب وقت.
شيطنة الخصوم
تجدر الإشارة إلى أن هذا المأزق الدبلوماسي الأخير بين البلدين، يأتي بعد شهر واحد فقط من مطالبة الإكوادور للحكومة المكسيكية بالسماح بدخول السفارة المكسيكية في كيتو، بهدف إلقاء القبض على نائب الرئيس الإكوادوري السابق، خورخي غلاس، الذي لجأ إلى مقر السفارة منذ السابع عشر من شهر ديسمبر الماضي، طالبًا اللجوء السياسي، وذلك هربًا من حكمين قضائيين جديدين بالسجن بتهم تتعلق بالفساد خلال فترة حكم الرئيس السابق، رافائيل كوريا، بالإضافة إلى محاكمة أخرى جارية يحقق فيها مكتب المدعي العام.
من جانبه، يرى نائب الرئيس السابق، خورخي غلاس، أن هذه الاتهامات الموجهة إليه، ما هي إلا جزء من حملة ملاحقة سياسية تستهدفه شخصيًا، وتستهدف جميع رموز تيار الرئيس السابق، رافائيل كوريا، الذي اتخذته التيارات اليمينية خصمًا لدودًا لها، ووظفت القضاء بشكل ممنهج لتشويه سمعتهم وشيطنتهم، وذلك بهدف منع عودتهم إلى السلطة مرة أخرى، حسب قوله.
في الساعات الأخيرة من يوم الخميس الماضي، ومع استعداد السفيرة المكسيكية لمغادرة البلاد، كثفت وزارة الداخلية الإكوادورية من تواجدها الأمني المكثف في محيط السفارة المكسيكية، وتناقلت وسائل الإعلام المحلية والإقليمية هذا المشهد بقدر كبير من الاستغراب والدهشة.
وردًا على ذلك، أعرب الرئيس المكسيكي، في اليوم التالي، عن استغرابه الشديد من هذا الاستعراض الأمني والعسكري، ووصفه بأنه أداء "فاشي"، وأعلن في اليوم نفسه عن منح اللجوء السياسي لنائب الرئيس الإكوادوري السابق، خورخي غلاس.
استنكار وتنديد
هذا القرار أشعل فتيل التصعيد من الجانب الإكوادوري، حيث أقدمت قوات الأمن الإكوادورية في الساعات الأخيرة من يوم الجمعة، على اقتحام مقر السفارة المكسيكية بالقوة المفرطة، والاعتداء الجسدي العنيف على القائم بالأعمال المؤقت، وإخراج خورخي غلاس من السفارة بالقوة، واقتياده إلى سجن شديد الحراسة يقع في جنوب البلاد.
ومع انتشار مقاطع فيديو توثق عملية الاقتحام والتعنيف عبر وسائل الإعلام الدولية، انهالت ردود الأفعال الدولية المنددة والمستنكرة لهذا العمل المشين، بدءًا بالجانب المكسيكي الذي أعلن عن قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بشكل فوري، ودعا جميع أفراد طاقم سفارته إلى مغادرة الإكوادور في أسرع وقت. وتلت ذلك تصريحات شديدة اللهجة من مختلف دول العالم، تعبر عن الاستنكار والتنديد بخرق الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تعتبر ما أقدمت عليه الإكوادور جريمة وانتهاكًا صارخًا لحرمة التراب المكسيكي.
شملت تصريحات التنديد والإدانة جميع حكومات دول القارة الأمريكية، دون استثناء، بالإضافة إلى بيان مشترك صادر عن الاتحاد الأوروبي، تبناه جميع أعضائه، كما عبرت العديد من الشخصيات السياسية العالمية البارزة عن استنكارها الشديد لما حدث.
وقد لخص الرئيس الإكوادوري السابق، رافائيل كوريا، الموقف برمته، بوصف الرئيس الحالي، دانيال نوبوا، بأنه شخصية نرجسية غير ناضجة سياسيًا واجتماعيًا، في إشارة واضحة إلى الشهرة التي كان يتمتع بها الشاب قبل توليه منصب الرئاسة، كونه الابن المدلل لـ "إمبراطور الموز"، وأغنى رجل في الإكوادور. ودعاه أغلب المحللين الإكوادوريين إلى إدراك الفارق الشاسع بين الأداء في إدارة شركات عائلته الخاصة، وبين إدارة شؤون الدولة بأكملها.
أما الرأي العام المكسيكي، فقد انصب اهتمامه بشكل كبير على حقيقة أن أمر اقتحام السفارة المكسيكية، قد صدر مباشرة من الرئيس الإكوادوري، دانيال نوبوا، وعن طريق وزيرة الداخلية في حكومته، مونيكا بالنسيا، وهي مكسيكية الجنسية، حتى قبل توليها المنصب قبل خمسة أشهر فقط.
وناقشت أغلب الآراء هذه المفارقة الساخرة بقدر كبير من التهكم والازدراء، مذكرة بأن بالنسيا، كانت قبل توليها المنصب، تعمل كمحامية لشركات الرئيس نوبوا، وبالتالي فإن حجم المكافأة التي حصلت عليها، يجعلها تنفذ الأوامر بطاعة عمياء، حتى لو شملت تلك الأوامر اقتحام سفارة بلدها الأم.
جرأة وجهل
يرى بعض النقاد أن قرار الاقتحام، يمثل مزيجًا خطيرًا من الجرأة المتهورة والجهل الفاضح بالتبعات القانونية الدولية والمالية والأخلاقية الوخيمة. وذكّروا بأن الإكوادور في عام 2012، كانت قد أبهرت العالم أجمع باحتضانها لجوليان أسانج، مؤسس موقع ويكيليكس الشهير، في مقر سفارتها في لندن، ومنحته جنسيتها لحمايته من الملاحقة القضائية، متحدية بذلك القضاء الأميركي الذي كان يتربص به، وذلك خلال فترة حكم الرئيس السابق، رافائيل كوريا.
لكنها عادت لتصدم العالم مرة أخرى، عندما قام الرئيس السابق، لينين مورينو، بسحب الجنسية من أسانج في عام 2019، والسماح للقوات البريطانية باقتحام مقر السفارة الإكوادورية في لندن وتسليمه للقضاء البريطاني، تمهيدًا لتسليمه إلى السلطات الأميركية. إلا أن القوات البريطانية ولا الأميركية، تجرأت على اقتحام السفارة الإكوادورية، دون الحصول على إذن مسبق، لإخراج شخص بحجم "أسانج"، من مقر السفارة التي لجأ إليها طلبًا للحماية.
وبغض النظر عن التكلفة الباهظة للخطوة المندفعة التي اتخذتها حكومة الرئيس الإكوادوري، دانيال نوبوا، فإن توقيتها يؤكد أن أول المتضررين منها هو الرئيس نفسه.
فالشاب الذي "فاز بالصدفة"، ليشغل منصب رئيس مؤقت، كان يعول على الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، متبنيًا شعارات الاقتصاد المنفتح وجذب الاستثمارات الأجنبية إلى الإكوادور، على الرغم من عجزه الواضح عن تحقيق انفراجة في الأزمة الأمنية غير المسبوقة التي تعصف بالبلاد. فهل ستساعده هذه الخطوة المتهورة في تعزيز حظوظه في الفوز بالانتخابات القادمة، أم أنها ستقضي عليها تمامًا؟
